قال الإمام القرطبي: "شهادة الزور هي: الشهادة بالكذب، ليتوصل بها إلى الباطل، من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال. فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها، ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله".ولقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة الزور إحدى علامات الساعة، حيث قال: "إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ.. شَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ" الصحيحة، لما في ذلك من ظلم عباد الله بسبب التلبيس عليهم بالأقاويل الكاذبة، والشهادات الباطلة، تغمط الناس حقوقهم، وتجعل الحقَّ باطلا، والباطلَ حقا.
فلا غرو أن تكون شهادة الزور مساوية في الجرم للشرك. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ"، ثُمَّ قَرَأَ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)" صحيح الترغيب.
ويدل على ذلك ما رواه أَبو بَكْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟" ثَلاَثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: "أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه. وأنت ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - اهتم بشهادة الزور أعظم من اهتمامه بالشرك بالله. قال ابن حجر: "وسبب الاهتمام بذلك: كون قول الزور وشهادةِ الزور أسهلَ وقوعاً على الناس، والتهاونُ بها أكثر.. فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها، ليس لعظمها بالنسبة لما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالبا".
ولذلك ورد التنبيه على خطورة شهادة الزور في كثير من نصوص ديننا، قال تعالى: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ". قال الإمام القرطبي: "هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور. وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره، ويناديَ عليه ليُعرف، لئلا يَغتر بشهادته أحد".
بل إن مجرد حضور مجلس التزوير عُدَّ حراما، فكيف باقترافه؟.
قال تعالى في بيان صفات عباد الرحمن: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا". قال أبو حيان: "والظاهر أن المعنى: لا يشهدون بالزور، أو لا يشهدون شهادة الزور. وقيل: المعنى: لا يحضرون الزور". ويعضده ما ذهب إليه ابن كثير في قوله: "أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتَّفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا منه بشيء". والزور في الآية هو الشرك، وقيل هو الغناء، وقيل: الكذب، وقيل: أعياد المشركين، وقيل: مجالس الباطل.
وكل ذلك يدل على عظم جريمة التزوير، والشهادة الكاذبة، قوليةً، وفعلية، ومادية، ومعنوية، لأن الشهادة إنما جعلت إعانة للقضاء على إحقاق الحقوق، وإنصاف المظلومين والمستضعفين، فإذا استحالت تحايلا على القضاء وكذبا، حُكم على المظلوم بالباطل، فهضم حقه، وضاع ماله، وهانت نفسه، وخدشت كرامته.
وقد أشار الإمام الذهبي إلى أن شاهد الزور ارتكب عددا من العظائم، منها:
1 - الكذب والافتراء. قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ". ومن علامات المنافق أنه إذا حدث كذب.
2 - ظُلْمُ المشهود ضده، حيث اعتُدي بشهادته على ماله، أو عرضه، وربما على روحه.
3 - ظُلْمُ المشهود له، حيث ساق إليه المال الحرام، فأخذه بشهادته، فوجبت له النار. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا" متفق عليه.
4 - أباح ما حرم الله تعالى من عصمة المال والدم والعرض، ولذلك كانت عقوبة شاهد الزور في الإسلام شديدة. قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ". وقال - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ" متفق عليه.