موعد

موعد
ذاتَ ليلةٍ من لياليهِ المختلفة اقتربَ من شباك شقتهِ حيثُ الهواءِ الموشحِ بعبيرِ الياسمينِ الدمشقي يتخللُ مساماتِ ذاتِهِ التائقةِ لبلدِهِ، أرسلَ بنظرهِ إلى قاسيون الذي يلوحُ لهُ كمجرةِ ضوءٍ، تنفّسَ بعمقٍ،وكادتْ تندلـِقُ على خَدّهِ دَمعةٌ اعتادتْ طريقَها فلنْ تضلَ حتى وإن تعثـّرتْ لبرهة.
ياااااااااه هلْ أنا توأمُ الحزن ِقالها متنهداً واستغرقَ قليلاً يستثيرُ مشاعرَهُ ويحثـُها لإلقاءِ همومِهِ إلى الوراء .
ألستَ أتيتَ هارباً من الشجن!! هيا أغلقْ فمَ الأحزانِ وعشْ لبضع وقتٍ مسرّاتـَك َالموؤدةَ من الحزنِ إلى الحزن، وبينما هو كذلك انتبهَ إلى نفسه وكأنَّهُ أحسّ بدوار ،لكنّهُ ليسَ من رهاب الأماكن المرتفعة حيث يقطن، بَلْ كان من شبحٍ لمدللةِ شيخ الجان تختالُ أمامَهُ بكلِ يناعةِ أغصانِ الجمالِ الغضّةِ لمْ يعبأ بسنيه التي تجاوزتْ الأربعين حين فغرَ فاه متكئاً على النافذة،
هناكَ على بعدٍ قريبٍ كانتْ تقفُ وتومضُ كبرقٍ، يداعبُ جديلتيها الهواءُ، يعبثُ بخصلاتِ الشعرِ اللا أدري ما وصفُه، نظراتُها كانت مصوبةً إليه ،لا يكاد يميزَ ابتسامتِها حقاً، فهل ثمة من يستطيعُ أن يقابلَ الشمس!!
كانَ يدّعي أنَّ إغفاءةً لرضوان * هي التي أفلتتْ الكثيرَ من الحورياتِ من الجنّةِ صوبَ الشام، كما ودأب أصحابُ الأزياءِ على إظهارِ قدرةِ الخالقِ جلَّ شأنهُ حين أبدعَ تلك المفاتنَ بأدقِّ التفاصيلِ المغرية، والغريبُ أنها لمْ تُحرّك بهِ ساكناً !طيلةَ فترةِ إقامتهِ في الشام, ربما فرطُ الجمالِ الخرافي قيّدَ شهواتَهُ ، لكنَّ هذهِ المرةَ الأمرُ مختلفٌ تماماً، إنّها أسرَتْ بقايا روحِهِ التي تتعكزُ على بيتِ شعرٍ منذُ آخرِ قصيدةٍ كتبها.
إنّها مسألةٌ طبيعيةٌ قالَ مبرراً وقوفِها أمامَهُ، فالبناءُ العمودي ينحرُ فسحةَ الراحةِ ليضطرَّ الناس لتزيين منازلهم بالزهور الاصطناعية وبعض السنادين دائمةِ الخضرة ويقفون على الشرفاتِ لاستنشاقِ بعض الهواء ربما؟؟ واستعادتْ ذاكرتُهُ طريقَ المطار يوم الجمعة وكيف أنَّ العوائلَ منتشرةٌ بين الأشجار كأسراب القطا.
صراعٌ مريرٌ بين عقلهِ اللمّا يكتملْ ومراهقةٍ متأخرةٍ قرأ الكثيرَ عنها في بعض الكتب النفسية وكان ينكرها على أهلها آنذاك.
ككوكبٍ دري في آخر الليل تزهرُ على شرفةِ العُمرِ الذي أرهقتهُ السنون العجاف بعد أن ضحك الياسمين بمفرقِه .
أخذته تساؤلاتٌ جمة، أتراهُ هاجساً مماثلاً لهواجسي ؟؟ لا أدري!! وأشعل سيجارة أخرى بعد أن غادر لحظتَهُ المتفجرةَ بالدهشةِ ليعودَ إلى ترسباتِ ذاكرتِهِ الموجعة يعلقُ في بؤسهِ النشيط وهو يحتوشُهُ كلَ حينٍ بمخالب قلقٍ مزمنٍ من جرّاءِ ظروفٍ ألمّتْ به فاستشاطَ ألماَ ليُـسدلَ الستارَ على نوافذِ انفلاتِ الأمل في حُبٍ محالٍ،
تكررُ الموقفِ كل ليلةٍ وفي نفس الوقتِ جعلهُ أكثرَ جديةٍ واستحوذَ على تفكيرهِ، الأمرُ الذي جعلَ منهُ وكأنَّهُ يمارسُ طقوساً مقدسةً لدى تلك النافذة ليراها وهي تتأرجحُ كحلمٍ زهري بين طياتِ روحِهِ الشرهةِ لتنفسِ عطرِها الصاخب.
وفي ذات جنونٍ جرّهُ شوقٌ عتيٌ للالتصاقِ بتلك النافذةِ ،حاول مراراً أنْ لا يخرج من قوقعتِهِ المقرفةِ إلاّ أنّهُ فشلَ في كبحِ زمامِ رغبةٍ جارفةٍ للتصابي.
تراجعتْ قليلاً حتى وسط الباحةِ حيثُ النورِ ،أخرجتْ نقـّّالها وبدأتْ تلعبُ به ،كان يؤمن بالتخاطر ونظرياتِ الطاقةِ الحديثةِ ،أسرعَ وجلبَ نقالـَهُ ،حينما فكّرَ أنّها تريدُ أنْ يرسلَ رقمَهُ خلال (البلوتوث)، وبسرعةٍ فتـّشَ عن الأجهزةِ المفتوحةِ ،ووجدَ واحداً فقط، كانتْ تلكَ اللحظةُ مدهشةً ،أرسلَ برقمهِ ولكنْ فوجئ بعدمِ وجودِ مستلمٍ !!
:لابدَّ من أنَّ المسافةَ أكبرُ من قدرةِ الأجهزةِ قال، حينما أخرج جهازَهُ من النافذةِ كي يطوي الزمن فارتعشتْ يداهُ ذهولاً من تغريدة الهيام المنتشي بين طياتِ صوتها حين الضحك وهي تضع النقالَ على أذنها فسقط نقالُهُ من يده وكادَ يسقطُ وراءَهُ سعياً في طلبه، وبذهولٍ مرعبٍ انتبه إلى شابًّ وسيمٍ بعمرها كان يقفُ في النافذة التي تحتهُ مباشرةً ويتحدثُ بنقاله